أسعار مرتفعة ومنتجات أجنبية بعروض تنافسية.. هل أخفق مخطط "المغرب الأخضر" في ضمان حليب كافٍ ورخيص للمغاربة؟
لا تزال أسعار المواد الأساسية في المغرب تواصل سقوطها مثل أحجار "الدومينو" في مسار لا تبدو أن نهايته قريبة، خاصة في ظل إصرار الحكومة على رفض كبح جماح أثمنة المحروقات عبر إعادة الدعم العمومي، وفي الوقت نفسه افتقارها لأي قدرة على فرض حد أقصى للأسعار للمواد الغذائية، الأمر الذي أدى إلى أزمة أضحى الحليب ومشتقاته أبرز نماذجها، بعدما دخلت دوامة رفع الأسعار بعد قرارين متتاليين من أكبر شركتين تعملان في هذا المجال في السوق الوطنية.
لكن مشكلة المغرب مع توفير الحليب ومشتقاته لا تتوقف هنا، فالمملكة فتحت أبوابها لاستيراد تلك المنتجات من دول أخرى، وهو الأمر الذي يطرح علامات استفهام كبيرة حول مدى قدرة الحكومة على توفير حاجيات السوق من تلك المواد من جهة، في ظل أن رئيسها الحالي عزيز أخنوش كان هو المشرف المباشر على مخطط المغرب الأخضر عندما كان وزيرا للفلاحة، ومن جهة أخرى، تدفع للتساؤل حول سبب عدم تأثر أسعار الحليب في تلك الدول بـ"الأزمة العالمية" التي تتعلل بها الرباط.
ارتفاع يتلوه ارتفاع
وبدأ مسلسل رفع أسعار الحليب ومشتقاته يوم 1 يونيو 2022، عندما أصدرت شركة "كوباغ" المُنتِجة للعلامة التجارية "جودة"، ثاني أكبر شركة للحليب في المملكة، مُذكرة داخلية تُعلن فيها رفع أسعار مختلف أصناف الحليب بما في ذلك حليب الأطفال، وبذلك انتقل سعر لتر الحليب الكامل المعقم من 8,40 درهما إلى 9,30، ولتر حليب النمو الخاص بالأطفال ارتفع من 6 دراهم إلى 6 دراهم ونصف، وأصبح سعر اللتر الواحد من الحليب الخالي من مادة اللاكتوز هو 11 درهما بعدما كان يُباع بـ10 درهم.
ولم تكن هذه إلا الحلقة الأولى في مسلسل ارتفاع الأسعار، إذ قررت شركة "سنترال دانون"، الفاعل الأكبر في السوق المغربية، والتي كانت إحدى المؤسسات المستهدفة بحملة المقاطعة سنة 2018، (قررت) الرفع من أسعار عدة منتجات على غرار "عصيري" الذي سيصبح سعره 5 دراهم ونصف عوض 5 فقط، واللبن الذي سيصبح سعره 3 دراهم ونصف عوض 3، ومنتجات "دانون" من فئة 240 غراما التي سترتفع كلها بـ50 سنتيما، كما هو الشأن بالنسبة لمنتجات "دان آب" المخصصة للشرب.
حليب قادم من مصر
وبالتزامن مع ذلك، أصبحت الأسواق المغربية تستقبل منتجات مستوردة قادمة من عدة دول، أكثرها إثارة للانتباه هي منتجات "المراعي"، وهي مؤسسة سعودية يعود تاريخ إنشائها إلى سنة 1977 وتُعد الأبرز في هذا المجال بمنطقة الخليج العربي، لكن بالتدقيق في منتجات الحليب المنتشرة في الأسواق الكبرى للعاصمة الرباط يلاحظ أن مصدرها هو مصر، أي أن علاقة السعودية بالمنتج تقتصر في هذه الحالة على كونها صاحبة العلامة التجارية.
ويصبح الأمر أكثر مدعاة للاستغراب حينما نكتشف أن ثمن اللتر الواحد من الحليب المعقم للمراعي المعروض جنبا إلى جنب أمام منتجات "سنترال" و"جودة" يبلغ ثمنه 11,95 درهما، وهو وإن كان أقل من نظيره المغربي إلا أنه باحتساب تكلفة الاستيراد يمكن الوصول إلى خلاصة مفادها أن سعره أقل من سعر الحليب المغربي، علما أنه يأتي من بلد غير مُنتج للنفط وبدوره يعاني من التبعات الدولية التي تتخذها الحكومة مبررا للزيادة المستمرة في أسعار المواد الغذائية.
القيمة الغذائية.. المقارنة الخاسرة
لكن الأمر لا يقف عند هذا الحد، فمُنتج "المراعي" مثلا، قد يجد لدى قطاع واسع من المستهلكين المغاربة قبولا أكبر من المنتجات المحلية، وذلك بمجرد قيامهم بمقارنة القيمة الغذائية في كل منتج، وهو ما قامت به "الصحيفة" مثلا مع منتج "جودة"، فإذا كانت القيمة الطاقية للحليب القادم من مصر هي 121 كيلو كالوري، فإنها في الحليب المغربي لا تزيد عن 58 كيلو كالوري، ويحتوي الأول على 5,6 غرامات من البروتينات مقابل 3 فقط في الثاني، بينما يضمن "المراعي" 194 مليغراما من الكاليسوم مقابل 120 في حليب "جودة".
ويعني هذا أن المغرب يستورد من بلد يعاني من إكراهات اقتصادية مماثلة له حليبا بسعر معقول وبقيمة غذائية أكبر، في الوقت الذي لم تقدم فيه الشركتان المغربيتان أي قيمة مضافة تبرر الزيادة في الأسعار، بل إنهما لم تخوضا أي حملة تواصلية لشرح دوافع الزيادة في الأسعار لأن الخبر لم ينتشر إلا من خلال تسريب مذكرة داخلية، علما أن "سنترال" تحديدا كانت قد اضطرت إلى إنفاق مبالغ كبيرة في حملة "أجي نتصالحو" سنة 2018 لعلها تُقنع المغاربة بوقف مقاطعتهم لمنتجاتها.
"المغرب الأخضر" في قفص الاتهام
ومن ناحية أخرى، فإن هذا الواقع يضع الحكومة أمام الكثير من الاستفسارات التي يتوجب عليها تقديم توضيحات بشأنها، فانتشار المنتجات الحليبية الأجنبية في الأسواق المغربية يؤكد الحاجة إليها لضمان حاجيات المستهلكين، ما يعني أن المغرب غير قادر على تحقيق الاكتفاء الذاتي من هذه المادي، بالإضافة إلى أن مقارنة الأسعار تؤكد وجود خلل في العملية برمتها، والقائمة أساسا على اقتناء الشركات الكبرى حليب مربي المواشي عبر التعاونيات بأثمنة منخفضة ثم إعادة بيعها بهامش ربح مُهم.
والأهم من ذلك، يضع السيناريو الحالي مخطط "المغرب الأخضر" أمام امتحان النجاعة، فالأمر يتعلق بمخطط سوق له رئيس الحكومة الحالي بشكل كبير عندما كان وزيرا للفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية والمياه والغابات، منذ أن انطلق سنة 2008 بقيمة مالية وصلت إلى 43 مليار درهم، إلى حدود سنة 2020 حين جرى الانتقال إلى خطة "الجيل الأخضر" الممتدة إلى 2030، لكن السؤال هو: لماذا لم ينجح كل ذلك في توفير حاجة كل المغاربة من الحليب، ولماذا لم يستطع التحكم في الأسعار خلال الأزمات؟.
نتائج مسكوت عنها منذ 2018
وبالعودة إلى المعطيات الرسمية التي تنشرها وزارة الفلاحة نلاحظ أن "سلسلة الحليب" تعد من بين رهانات المخطط، لكن كل الأرقام المعروضة تقف عند سنة 2018، وتتحدث عن أن عدد مربي الأبقار الحلوب بلغ 260 ألفا، وارتفاع إنتاج الحليب من 1,7 إلى 2,5 مليار لتر في لفترة ما بين 2007 و2018، مع تثمين 70 في المائة من الإنتاج الوطني للحليب بواسطة 82 وحدة صناعية، وارتفاع رقم المعاملات من 5,9 إلى 9,1 مليار درهم في الفترة ما بين 2008 و2018، وارتفاع القيمة المضافة لسلسلة الحليب من 2,7 إلى 4,2 مليار درهم خلال الفترة ذاتها.
وكان أخنوش نفسه قد دافع بشدة على نتائج المخطط بخصوص توفير الحليب عند مروره بمجلس المستشارين بصفته وزيرا للفلاحة في يونيو من سنة 2018، مبرزا أن ما حققه تمثل في تحسيس سلاسل الإنتاج وتوفير هذه المادة في الأسواق وتخليص المغاربة من الصفوف الطويلة التي كانوا يقفون فيها لاقتناء حاجياتهم منها في الماضي، لكن حاليا، وبعد مرور 4 سنوات كاملة على هذا التصريح، لم يعد أخنوش ولا حكومته يتحدثان لا عن مدى توفر المنتج الوطني من الحليب في السوق المغربي ولا عن الأسعار التي تضخمت مع أزمة الحرب الروسية الأوكرانية.
تعليقات
بإمكانكم تغيير ترتيب الآراء حسب الاختيارات أسفله :